2012-03-22

بورسعيد: ظالمة أم مظلومة؟



تصدرت أخبار غضب وثورة شعب بورسعيد الصفحات الأولى من الصحف الصادرة أمس (25/3). فقرأنا عنوانا رئيسيا باللون الأحمر حدثنا عن إعلان استقلال المدينة، وحدثتنا صحيفة أخرى عن اشتعال الغضب فى أرجائها، ووصفت صحيفة ثالثة ما جرى هناك بأنه «فتنة». وفى التفاصيل أن الأهالى حاولوا اقتحام مبنى قناة السويس، الأمر الذى أدى إلى سقوط قتيل وإصابة 67 شخصا، إثر صدام استمر ست ساعات بين قوات تأمين المبنى وجموع المتظاهرين.
عرفنا أيضا أن نحو خمسة آلاف شخص تجمعوا أمام منطقة الاستثمار عند المنفذ الجنوبى للمدينة، حيث منعوا 35 ألف عامل من الوصول إلى مائة مصنع، طالب أصحابها بسرعة التدخل الأمنى سواء لحماية أرواح العاملين أو للحيلولة دون توقف عجلة الإنتاج بالمنطقة.
هذا قليل من كثير لأن المدينة اجتاحتها حالة من الغضب المنفلت، الذى لم يستبعد احتمال وقف المجرى الملاحى فى قناة السويس وإحراق مخازن السيارات التابعة للهيئة وشل الحركة فى المنطقة الصناعية وإغلاق منافذ المحافظة. كل ذلك لأن الجماهير أرادت أن تعبر عن رفضها واحتجاجها على العقوبات التى قررها اتحاد الكرة، والتى قضت بتجميد فريق المصرى لمدة موسمين، وحظر إقامة مباريات على ملعبه لمدة 3 سنوات، والسبب معروف إذ يتمثل فى الأحداث الدامية التى شهدها استاد بورسعيد فى أول فبراير الماضى، عقب مباراة كرة القدم بين النادى المصرى البورسعيدى وبين فريق النادى الأهلى، مما أدى إلى مقتل 75 شخصا.
المشهد كله يدعو إلى الدهشة ويحتاج إلى جهد لاستيعابه وتقصى خلفياته. ذلك أن مثل هذا الغضب العارم ليس مألوفا فى الطبع المصرى بوجه عام. وفى العالم العربى يقال إن «الدم حار» فى العراق وفى الجزائر، وإن الانفعال والعنف من سمات السلوك الاجتماعى المألوف فى البلدين. وعادة ما يضرب المثل بمصر فى اعتدال المزاج الجماهيرى العام ويشار أيضا إلى تونس والمغرب والسودان، حيث الخصومات فى كل أحوالها لها حدود ولا تنزلق إلى العنف إلا فى لحظات استثنائية ونادرة.
فى هذا الصدد لابد أن تلاحظ أن الشعب المصرى حين أراد أن يعلن عن رفضه لمبارك ونظامه فإنه أسقطهما بأسلوب سلمى للغاية، حتى ثورة 23 يوليو التى اسقطت الملك فاروق فى سنة 1952. لم ترق فيها دماء تذكر. الأمر الذى يضعنا أمام مفارقة تثير الانتباه، فالاحتجاج على مبارك ونظامه تم بطريقة سلمية أما الاحتجاج على قرارات اتحاد الكرة فقد اتسم بدرجة من العنف والخشونة على النحو الذى رأيت.
ليس عندى تفسير مقنع لما جرى فى بورسعيد، علما بأن مقتلة المباراة البائسة التى تمت بين الناديين المصرى والأهلى لايزال يكتنفها بعض الغموض، رغم أن ثمة اتفاقا بين الجميع على أن الحادث كان مدبرا وأن القتل كان مرتبا سلفا، سألت من هم أخبر منى بمجتمع المدينة التى تحتل مكانة رفيعة فى الذاكرة المصرية منذ العدوان الثلاثى فى عام 1956، فحدثونى عن أمرين؛ الأول شعور أهل بورسعيد بأن بلدهم مظلوم ومضطهد منذ عهد الرئيس السابق، الذى تعرض لمحاولة الاغتيال أثناء زيارته لها فى عام 1999. ولأنها لم تكن مشمولة بالرضى السلطانى فإنها أهملت ولم تكترث السلطة بفكرة تحويلها إلى منطقة حرة وإنما تحولت إلى مدينة منبوذة. السبب الثانى الذى حدثنى عنه أن أهل بورسعيد يعتبرون أنهم ظلموا أيضا بعد فجيعة المباراة. من ناحية لأن الإعلام شوه صورة المدينة بأسرها رغم أن الواقعة تخص النادى المصرى وحده. ومن ناحية أخرى فرغم أن الجميع يتفقون على أن الحادث مدبر، وأن لاعبى النادى المصرى لم يكونوا طرفا فى المقتلة، فإن الفاعلين الحقيقيين لم يحاسبوا، فى حين أن العقوبة أنزلت بالنادى وفريقه.
هذا الكلام يستحق التفكير والتحقيق. وإن كنت أزعم أنه لا يبرر ذلك السلوك العنيف من جانب أهالى المدينة، الأمر الذى يعنى أن الأمر لايزال بحاجة إلى دراسة متأنية من جانب أهل الاختصاص. يمكننا من فهم الأسباب الحقيقية لذلك السمت الجامح والغضوب الذى طالعناه أخيرا للمدينة، فى حين أننا رأيناها ناعمة ورائقة المزاج فى فرقة السمسمية، ورأيناها مسكونة بالعزة والكبرياء فى مواجهة العدوان الثلاثى.
المفارقة الأخرى فى المشهد التى أحسبها جديرة بالملاحظة أنه فى حين كانت الجماهير تحتشد لاقتحام مبنى قناة السويس وتحاصر المنطقة الصناعية فى بورسعيد، فإن النخب السياسية جميعها ظلت غائبة عن مسرح الحدث، ومشغولة بتوزيع الحصص والأنصبة فى عضوية لجنة الدستور بالقاهرة. وهى المفارقة التى كشفت عن اتساع الهوة بين اهتمامات الناس وبين النخب فى مصر، وهو مشهد يذكرنا بالعهد السابق حين كانت السلطة فى واد والمجتمع فى واد آخر، مع فرق واحد هو أن النخب آنذاك كانت محجوبة ومضطرة، لكنها فى الوقت الراهن اختارت أن تنشغل بحساباتها عن هواجس المجتمع وهمومه، حتى لا أبالغ إذا قلت إن نسبة عالية من تلك النخب مهتمة بالحضور على شاشات التليفزيون، بأكثر من حضورها بين الناس على الأرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق