مما يلفت النظر فى صيغ الرواية، رواية الأحداث على لسان مبارك، أنها تعتمد دائما على إسناد الأفعال إلى آخر أو آخرين، وأن تقديره وحكمه على الأمور كان مبنيا على حيثيات هذه المعلومات التى كانت تقدم إليه، بغض النظر عمن قدمها أو مدى مطابقة هذه المعلومات للحقيقة أو تصويرها للواقع.
نجد مبارك فى كثير من المواضع فى المذكرات المنشورة، يقول «أبلغونى»، «أبلغنى»، «قال لى»، أوصلوا لى كذا».. إلخ. رغم أنه قال فى موضع سابق من المذكرات: «أغلقت أذنى عن سماع آراء الآخرين ونفذت رأيى حتى لا يصبح للمركب رئيسان»، معللا ذلك بتصوره الخاص عن المصريين عموما الذين يتهمهم بأن كلا منهم له رأيه الخاص المختلف عن الآخر، وأنه «لو وقف ليستمع إلى كل رأى لكان أصيب بالمرض النفسى.. وأن أفضل الطرق لتجنب هذا هى الابتعاد عن سماع الآراء والعمل برأيه هو حتى لا يصبح للمركب التى شبه بها مصر أكثر من رئيس»، وفقا لما هو مثبت على لسانه بالمذكرات.
هذا التناقض البين بين ما يحكيه مبارك عن اعتماده على مجموعة محددة من المحيطين به فى القصر الرئاسى لإبلاغه بالمعلومات وما يدور خارج القصر، وبين عدم ثقته برأى أحد آخر غير رأيه هو، تناقض لا يجد ما يكشفه أو يفسره أو يطرح وجهة نظر مقنعة تبرر هذا التناقض أو تنفيه، فالثابت أن مبارك كان معزولا تماما عما يدور على أرض مصر من مجريات وأحوال، وكان غائبا ومغيبا عن هموم الناس ومعاناتهم التى تفاقمت خلال سنوات حكمه، وبالأخص فى السنوات العشر الأخيرة التى وصلت فيها الأمور حد الغليان بل الفوران الذى وصل إلى مداه فى يناير 2011، وهو ما يشى باعتماده التام على عدد قليل جدا من الشخصيات المحيطة به، من أفراد أسرته، سوزان وجمال، إضافة إلى رموز النظام الفاسد (زكريا عزمى، صفوت الشريف، فتحى سرور، وبقية رجالاته من الحزب الوطنى المنحل)، الذى أدى بالبلاد إلى الهوة السحيقة التى سقطت فيها، ولا يعلم إلا الله متى تخرج منها.
وبناء عليه كان مبارك يتخذ قراراته، أو بالأحرى قرارات ورغبات الآخرين التى كانت تملى عليه، دون إدراك لأبعادها ومدى تأثيرها على حياة الناس ومعاشهم فى مصر، والتى كانت فى مجملها قرارات كارثية فادحة، تخلو من التقدير الدقيق والإحساس بنبض الجماهير، وسوء التوقيت، وهو ما بدا جليا خلال أيام الثورة وبالأخص فى الأيام القليلة التى سبقت التنحى.
يقول مبارك فى مذكراته: «كنت أحكم نظاما من ورق كنت له دمية حاكم.. لماذا أقول الحقيقة؟ لأننى اخترت أن أكون صادقا لأن المصريين ربما يفهموننى وأنا صادق ولقد اخترت أن أكون إنسانا»!
والحقيقة، إن كانت هذه عبارات مبارك، وصدرت منه على وجه التحقيق، فإن هذه العبارات تثير كمًّا هائلا من التساؤلات المثيرة للدهشة والتعجب والسخرية أيضا! فهل من المعقول أن يخاطب مبارك المصريين الذين تعامل معهم بكل احتقار ودونية طوال سنوات حكمه وتركهم لطغمة من الأشرار استباحوا إنسانيتهم وأهدروا كرامتهم ومصوا دماءهم واستذلوهم واستعبدوهم وفعلوا بهم ما فعلوا، هل من المعقول أن يأتى الآن وفى مذكراته تلك، إن كانت فعلا، ليخبرهم بأنه كان صادقا ويطلب منهم أن يفهموه ويصدقوه؟! الآن فقط أدرك أنهم بشر وآدميون يخبرهم بأنه اختار أن يكون إنسانا.. هو الذى تعامل معهم على أنهم قطيع له، له حق الأمر وعليهم واجب الطاعة ولا مزيد!
يضيف مبارك، فى إشارة ربما تكون ذات مغزى ولها دلالة، أن الوحيد من الذين كانوا ضمن نظامه الفاسد وذكره بالخير هو مستشاره السياسى أسامة الباز الذى رافقه منذ بداية حكمه وظل معه حتى اعتزل العمل السياسى وانزوى فى الظل بعيدا عن الحاشية المحيطة بمبارك، يقول عنه: «إنه كان رجلا حكيما، وأنه فقد حكمته وتوجيهاته له عندما اعتزل الحياة السياسية لأسباب شخصية لديه»!
بالعودة إلى سياق الأحداث التى يرويها مبارك عن الأيام الأخيرة له هو وأفراد أسرته بالقصر الرئاسى، يذكر مبارك مجموعة من الوقائع الدالة على فساد الرؤية وسوء التقدير وانهيار الأوضاع، ويصور حالة الفزع والرعب التى انتابت أفراد أسرته والحالة التى وصلوا إليها بعد إدراكهم أن الأمور باتت خارج السيطرة، ولم يعد هناك من سبيل للاستمرار فى الحكم أو القضاء على الثورة التى باتت على أعتاب القصر.
يقول مبارك فى مذكراته إن ابنه علاء كان ينظر إلى شقيقه جمال طوال الوقت، فى أثناء أحداث الثورة، وبعدما أحاط المتظاهرون بالقصر الرئاسى، ويقول له «ليه بس كده»، وكأنه يتهم أخاه بالتسبب فى ما وقع لهم، بينما كانت زوجته سوزان ثابت التى كانت تتابع مشهد الثورة واللحظات الأخيرة قبل التنحى، فى حالة غير طبيعية، وكانت تضع رأسها بين يديها وجسدها كله يرتعش بشدة، وتهذى بكلمات وجمل غير مفهومة، وتساءلت: هنعمل إيه ونروح فين؟ بينما كان ابنها جمال يحاول تهدئتها وطمأنتها، ويقول لها: «لا تخافى يا ماما.. خير إن شاء الله»!
مبارك يحكى أنه تدخل فى الحديث، وقال لكل الحاضرين معهم، إنها مشيئة الله ولا يجدى فى الموقف إلا أن ينتظروا أمر الله، ويقول إن سوزان كانت تهذى وتقول: «هنعمل إيه، هنروح فين»، فقال لها مبارك: «لن نترك مصر لأى سبب.. سنبقى فيها وإذا رغبتم فى المغادرة ما زال يمكنكم، فرفضوا الهروب وبقوا معه».
ويصف مبارك، كما جاء فى المذكرات المنشورة بجريدة «روزاليوسف»، مشهد محاصرة الثوار لقصر العروبة بمصر الجديدة، «الذين كانت أعدادهم تتزايد بشكل رهيب، وكانوا يتجمعون بالآلاف، وكلهم عزم على اقتحام القصر وتخطى الأسوار والأسلاك الشائكة التى لم تكن لتمنعهم بأى حال من عبوره والدخول إلى القصر، وهو الأمر الذى أبلغ المحيطون بمبارك أنه جد خطير، وأن الوضع شديد السوء.
وعليه طلب منه الحراس المرافقون له أن يقرر كيف يتعاملون مع المتظاهرين فى حال اقتحامهم القصر.. هل سيطلقون عليهم النيران؟ فقرر مبارك، بناء على التعليمات (لا توضح المذكرات ماهية هذه التعليمات ولا مصدرها)، المغادرة فورا، وطلب من الأسرة أن تذهب لكى تجمع ما يستطيعون من احتياجات سريعة، فذهب كل منهم إلى مكان، بينما سمع هو بوضوح صوت طائرة هليكوبتر، هبطت داخل الساحة المخصصة لها بالقصر، وطلب منه النزول سريعا، فذهب فورا وصعد إلى الطائرة دون أن يأخذ معه شيئا».
مبارك فى هذا المقطع من مذكراته المنشورة، عقب على سرده للأحداث فى اللحظات الأخيرة قبل مغادرته القصر، بتأكيده أنه لم يكن ديكتاتورا! ودلل على ذلك، بأنه لو كان كذلك، لاستجاب فورا لفكرة سحق الثورة باستخدام 11 دبابة فقط!
ويوجه مبارك حديثه للشعب المصرى والعالم (هكذا!!) أنه على عكس كل ما كتب ضده وكل القصص التى تناولته وتم تداولها عنه بأنه ديكتاتور، ولو أراد أن يكون ديكتاتورا حقيقيا لقام بتنفيذ رغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى إيجاد حل سريع للمظاهرات.. ولكان يكفيه استراتيجيا وعسكريا 11 دبابة فقط تدخل إلى ميدان التحرير من المنافذ الرئيسية المؤدية له، وأنه مهما كانت قوة الثوار من المدنيين المحتشدين والمعتصمين بالميدان لم تكن لتقوى على الوقوف أمام الدبابات.. وكان سيتم إخلاء الميدان تماما من البشر فى دقائق معدودة! لكنه وكما يؤكد خاف على أرواح الناس، لأنه علم أن الخسائر فى الأرواح ستكون فادحة، وهو ما جعله يصدر أوامره للجيش بالنزول إلى الميدان لتأمينه وتأمين مداخله وأرواح من فيه، لا لسحق المتظاهرين بالميدان!!
إذن يتضح أن مبارك، فى مذكراته المنسوبة إليه والمنشورة على صفحات جريدة «روزاليوسف»، كان حاكما من طراز فريد، حاكما رحيما رؤوفا عطوفا يخشى على مصائر الناس وأرواحهم، وبذا يكون مبارك هو الذى أنقذ الثورة والثوار من مصير أسود كان ينتظرهم لولا رحمته وقلبه الكبير! ولكِ الله يا مصر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق