ابراهيم سعودي يكتب .. نهر الفساد
للكاتب الكبير توفيق الحكيم مسرحية بديعة اسمها نهر الجنون تروي أحداثها انه في احدى الممالك القديمة رأى الملك رؤية انه أبصر أفاعي سوداء قد هبطت فجأة من السماء و في أنيابها سم تسكبه في النهر الذي يجري في المملكة فإذا هو في لون الليل ، و هتف بالملك من يقول : حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون ، وأن جميع من في المملكة يشرب من النهر ويصاب بالجنون فيما عدا الملك والوزير .
وعلى الجانب الآخر تقف الملكة وكبير الكهنه وكبير الاطباء ومن خلفهم الشعب يعتقدون جميعاً أن الملك والوزير أصابهما الجنون ، وأنهما لا شفاء لهما من الجنون ما لم يشربا من النهر .وتدور أحداث المسرحية في صراع بين الفريقين
الى ان ينتهي الملك والوزير انهما حتى وان كانا وحدهما هما العاقلين في المملكة ، فما قيمة نور العقل في وسط مملكة من المجانين ، و أنه لمن الخير لهما أن يعيشا مع الملكة و الناس في تفاهم و صفاء ، و لو منحا عقلهما من أجل ذلك ثمناً!
فالجنون يعطيهما رغد العيش ، فمن الجنون أن لا يختارا الجنون ، بل إنه لمن العقل أن يؤثرا الجنون ، وتنتهي المسرحية بأن يطلب الملك من الوزير أن يأتي له بكأس من نهر الجنون .
أتذكر دائما هذه المسرحية كلما شاهدت نهر الفساد يجري في ربوع البلاد ، وأسأل نفسي دائما ما قيمة الشرف والحق والفضيلة في وسط مملكة من الفاسدين .
وكثيرا ما يهمس لي شيطاني بأنني لن تطيب لي الحياة في مصر بما آل اليه حالها ، ما لم أشرب من نهر الفساد ، وأحار طويلا بين شيطاني وضميري ، وازداد حيرة على حيرة ، حين أفكر في اولادي وكيف أربيهم ، هل أربيهم على استخدام كل وسيلة ولو غير مشروعة، وأن الغاية تبرر الوسيلة ( و اللى تكسب به العب به ) .
هل أعلمهم أن معيار النجاح في الحياة هوالنفاق والتملق وصناعة العلاقات العامة بدلا من العلم والثقافة والعمل، وان عليهم اغتنام الفرص إذا دنت ، والصعود على اجساد الناس وان دمت .
هل أعلم أولادي كيف يقلبون المعايير ويخلطون الموازين ويفسدون المعانى ، كيف يحتقرون العمل ويحتفون بالسمسرة والكسب السريع .
هل أعلمهم كيف يرون العري فنا وابداعا ، و الغدر فطنة وذكاءًا ، و الفساد فهلوة وشطارة ، والظلم حماية للمجتمع
هل أعلمهم أن النصب ” تفتيح مخ ” ، وأن الرشوة ” تنطيق رزق ” ، وأن السكوت عن الحق ” تكبير دماغ ” ، وأن معين الظالم على الظلم ” عبد المأمور ” .
إن لم تكن لدي القدرة على أن أشرب من نهر الفساد ، فهل من العدل ألا أسقي أولادي منه وقد شقيت في حرماني منه .
لقد صدق الشاعر حين قال : إذا كانت أمور الناس عوجاً ينال المستقيم بها عذاب !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق