منذ أكثر من أربعة عشر عامًا، وفي الثاني عشر من أكتوبر لعام 2000 قبل منتصف الظهيرة بتوقيت العاصمة اليمنية صنعاء وعلى بعد مئات الكيلومترات منها، كانت المدمرة الأمريكية يو إس إس كول (DDG-67) ترسو في ميناء عدن للتزود بالوقود، بعد دقائق سيأتي قارب صغير ليقترب من جانب المدمرة في حذر شديد، يصل إليها، ثم ينفجر، كان الانفجار من القوة بحيث تسبب في تمزيق 12 مترًا طوليًّا مع فتحة عريضة من هيكل المدمرة الفولاذي كأنها قطعة من الورق، وقتلت الشحنة المتفجرة سبعة عشر بحارًا أمريكيًّا وأصابت تسعة وثلاثين آخرين في إحدى أقوى الهجمات التي استهدفت قطعة حربية أمريكية في آخر عقدين على الأقل، والعلامة المسجلة كانت لتنظيم القاعدة.
بعد ذلك وبشكل سري، حددت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية المعروفة اختصارًا بالـ CIA مخططي العملية، العقل المدبر – بحسب الوكالة- كان (قائد بن سالم بن سنيان) المعروف بـ (أبي علي الحارثي)، زعيم القاعدة في اليمن والمطلوب رقم 1 لنظام علي عبد الله صالح والأمريكيين على السواء في جزيرة العرب، بدأت الوكالة عملية مطاردة استمرت لأكثر من عشرين شهرًا لكل من اشتبهت في وجود خيط بينه وبين الحارثي بهدف الوصول إليه، كانت القاعدة تعرف قيمة الحارثي والفجوة التي ستحدث للمنظومة في اليمن وشبه الجزيرة عمومًا إن نجحت الـ CIA في مسعاها فاتخذت أغلب الاحتياطات الممكنة لمنع الوكالة من تحقيق الهدف.
في الثالث من نوفمبر من عام 2002 وأثناء جولة مراقبة تقليدية لطائرة بدون طيار (Predator) تابعة للوكالة، تم التقاط أثر الحارثي مع خمسة من رجال التنظيم في سيارة دفع رباعي في مدينة مأرب، هزت المعلومة مقر القيادة الوسطى للجيش الأمريكي المسئولة عن مسرح عمليات الشرق الأوسط، لم يعرف نائب مدير القيادة جنرال الثلاثة نجوم (مايكل ديلونج) – الذراع الأيمن لجنرال وزارة الدفاع وقائد المنطقة حينها (تومي فرانكس)- كيفية التصرف فاتصل هاتفيًّا بمدير المخابرات المركزية (جورج بينيت) لأن القرار ينبغي ألا يصدر إلا على ذلك المستوى (مدير المخابرات)، أصدر حينها المدير أمرًا مباشرًا قائلًا له (اقتلوه)!
أطلقت الـPredator صاروخًا من نوع (Hellfire)، نسف الصاروخ السيارة بمن فيها، وتوارد حينها أن الطائرة أطلقت صاروخًا آخر قضى على البقية الباقية وتسبب في وفاة الستة وعلى رأسهم الحارثي، مثلت هذه العملية علامة فارقة في تاريخ الـ CIA كأول عملية اغتيال لمطلوب للوكالة بطائرة بدون طيار بأمر رسمي مباشر، علامة تحول مذهلة – كما وصفها الصحفي مارك مازيتي ونقلها محرر الفورين بوليسي الشهير (يوكي دريزين)- تكشف بجلاء كيفية تحول الوكالة من جهاز لجمع وسرقة المعلومات من البلدان الأجنبية الحليفة والعدوة إلى أكبر جهاز عالمي لتنفيذ عمليات الاغتيال في جميع أنحاء الأرض، تنفيذ عمليات اغتيال بجانب امتلاكه لشبكة معتقلات سرية في عدد كبير من البلدان يستخدمها بفاعلية تامة في ممارسة كل أنواع الانتهاكات غير الإنسانية.
جستابو الولايات المتحدة!
في عام 1942 أصدر الرئيس الأمريكي روزفلت أمرًا بترقية الكولونيل (وليام دونوفان) إلى رتبة “جنرال” وتسليمه دفة قيادة مكتب الخدمات الإستراتيجية أو (OSS) النجم الصاعد في سماء مجتمع المعلومات الأمريكي في زمن الحرب، أثبت وليام الملقب بأبي الاستخبارات الأمريكية أنه الرجل المناسب كالعادة، وأسس جهازًا ضم ستة عشر ألف عميل يعملون في جميع أنحاء العالم، يتركز نشاطهم على (التجسس على دول المحور/ دعم المقاومة الفرنسية والأوروبية في مواجهة ألمانيا النازية)، وساعدته في ذلك المخابرات البريطانية (MI6) شديدة القوة في ذلك الوقت.
بعد انتهاء الحرب وتسيد الولايات المتحدة للوضع العالمي بسلاحها النووي بدأ صراع الهيمنة الداخلي الأمريكي، وكان لا بد لأجهزة مجتمع الاستخبارات الأمريكي أن تواجه بعضها البعض لتتربع إحداها على قمة الهرم، في ذلك الوقت كان نفوذ إدجار هوفر المؤسس الأسطوري للمباحث الفيدرالية الأمريكية (FBI) بالغ القوة لدرجة مكنته من الضغط على رؤساء الولايات المتحدة أنفسهم مع إذعانهم التام له، بالتالي عندما تواجه دونوفان مع هوفر كانت المعركة شبه محسومة، ضغط هوفر بشدة على الرئيس الأمريكي (هاري ترومان) بحجة أن جهاز دونوفان سيتحول لجستابو أمريكي، أصدر الأخير أمرًا رئاسيًّا بحل وغلق مكتب الخدمات الإستراتيجية بآلاف العملاء والموظفين، والإبقاء على وحدة صغيرة فقط بنفس المسمى تقريبًا (وحدة الخدمات الإستراتيجية SSU)، وكانت هذه الوحدة هي نواة المخابرات المركزية الأمريكية.
المفارقة أن المباحث الفيدرالية في هذا الوقت وحتى وفاة هوفر في أوائل السبعينيات كانت جستابو بكل معنى الكلمة واستخدمها هو نفسه لتثبيت نفوذه على الطبقة الحاكمة في واشنطن، وبعد ذلك ومنذ نشوء المخابرات الأمريكية وحتى الآن تحولت الأخيرة نفسها للجستابو الأمريكي الحالي!
مرحلة الساحر ويسنر
{كان المفتاح الأساسي لأشياء كثيرة وعظيمة، عبقري، بصير، ورجل ساحر، مُقتنع تمامًا بأن أي شيء يمكن تحقيقه وأنه قادر على ذلك}.
صحفي النيويورك تايمز الشهير في الستينيات (هاريسون ساليسبيري) في معرض وصفه لفرانك ويسنر.
تطلبت مرحلة ما بعد الحرب رجلًا خاصًا لإدارة الصراع مع الجبهة السوفيتية والأيديولوجية الشيوعية عمومًا، خاصة مع انطلاق وكالة المخابرات المركزية -بمسماها الحالي- في عام 1947 واضطلاعها بالمهام الخارجية الخاصة بموسكو، كان هناك رجل واحد بمواصفات تكافئ ما هو مطلوب لرفع كفاءة الجهاز الأمريكي الوليد على ساحة يتسيدها البريطانيون والسوفييت، ضابط البحرية السابق المتقاعد، الكاره دائمًا وأبدًا للاتحاد السوفيتي، والمحامي اللامع في شركة (كارتر ليديارد) إحدى علامات وول ستريت، رجل يدعي (فرانك ويسنر).
أتى فرانك ويسنر بدعم (جيمس فوريستال) وزير الدفاع الأمريكي حينها ليحصل على موافقة رئاسية بإنشاء قسم جديد في الوكالة الحديثة يدعي (مكتب تنسيق السياسات OPC)، قسم يتبع الـ CIA اسمًا وميزانية، لكنه لا يخضع للمسائلة بأي شكل أمام الوكالة بالكامل، وإنما يمتثل القسم ورئيسه لوزير الدفاع، وخطط القسم وعملياته تظل سرية حتى بالنسبة لمدير الـ CIA!
كانت أهداف المكتب تتلخص في دعم حلفاء الولايات المتحدة والعمل على إسقاط أعدائها بأي شكل، ما فعله فرانك في حقبته كأول مدير لمكتب كان نواة أسلوب عمل السي أي إيه بالكامل حتى الآن، مستمدًا العون من رفاق شركة كارتر الذين جند الكثير منهم معه، متسلحًا بكراهيته للشيوعية، ومطورًا لأسلوب عمل المخابرات البريطانية في الاختراقات الداخلية بدلًا من التدخل المباشر.
عندما بدأ فرانك ومن ورائه الـ OPC لم يطلقوا أولى عملياتهم خارج البلاد وإنما داخل أمريكا نفسها، كان ويسنر يعلم أن الوكالة تحتاج لجناح إعلامي قوي يشرف على توجيه الوعي العام لصالحها، يؤثر على السياسيين والتكتلات الداخلية، ويعمل بمثابة الدرع لأنشطة المخابرات المركزية الخارجية في الدول الأخرى، ولأن الأمر ليس سهلًا مع صحافة قوية وداخل فقاعة محمية جيدًا، أطلق فرانك عملية (الطائر المحاكي Mockingbird) لتنمية نفوذ الـ CIA بداخل وسائل الإعلام الأمريكية.
تجلت دقة اختيارات الـ OPC عندما تم انتقاء فيليب جراهام ليدير العملية من داخل الآلة الإعلامية نفسها، جراهام الناشر الشهير والشريك المالك لإحدى قطبي الصحافة الأمريكية (واشنطن بوست)، بنهاية عام 1950 وبعد أقل من عام على انطلاق الطائر المحاكي كانت المخابرات المركزية تمتلك نفوذًا في 25 صحفية ووكالة أنباء، وتوجه عددًا لا بأس به من أمهر الصحفيين في نيويورك تايمز وواشنطن بوست ونيوز ويك وهيرالد تريبون ومجلة التايم، وبعض معدي ومخرجي برامج الذروة في شبكات ضخمة مثل الـ CBS، وتضع شبكة كاملة من الإعلاميين على قوائم الرشاوي الشهرية المنتظمة، ثم كانت الضربة الكبرى بضم أحد أهم صحفيي الولايات المتحدة (جوزيف ألسوب) والذي كانت مقالاته تنشر في أكثر من ثلاثمائة جريدة ومجلة، وكانت الـ CIA تسرب لهم بعض المعلومات السرية لمساعدتهم على أداء أدوارهم بشكل أفضل.
نصف انقلابات العالم!
وأخيرًا وصل إلى السلطة!
بعد عناء طويل ومشوار عمر كامل، تمكن الرجل الستيني الحاصل على دكتوراه القانون الدولي من جامعة نيوشاتيل السويسرية والسياسي الإيراني المخضرم صاحب الشعبية الجارفة من الوصول لمقعد رئيس وزراء إيران كرجل الدولة الثاني بعد الشاه، وصل (محمد مصدق) المحامي والبرلماني الشهير إلى مقعد خوله لبدأ برنامجه الخاص للتحرر من فلك الهيمنة البريطانية، كان مصدق محملًا بتطلعات الشعب الإيراني الضخمة الرامية إلى تحسن اقتصادي ومعيشي سريع وإبداء تحسن ملموس في أهم قضية شعبية حينها (تأميم النفط)، لكن رئيس الوزراء الديموقراطي المنتخب لم يكن يدرك أنه لن يجلس على مقعده طويلًا، على الجانب الآخر من المحيط لن تسمح له الـ CIA بذلك.
تولى محمد مصدق رئاسة الوزراء الإيرانية في آخر أبريل لعام 1951، بعد توليه رئاسة الوزراء بيومين فقط أصدر أمرًا بتأميم شركة النفط البريطانية الإيرانية التي كانت تضخ أغلب نفط إيران لإنجلترا، وصادر الأصول وألغى امتيازات الشركة المنصوص على استمرارها تعاقدًا لأكثر من 40 عامًا أخرى، ثم بدأ برنامجًا للإصلاح الاجتماعي تمثل في دفع مساعدات بطالة وتأميم أراضي كبار الملاك الزراعية وإعادة توزيعها على صغار المزارعين وممن أممت أراضيهم عائلة الشاه نفسها، وبدأ في توجيه جزء كبير من ميزانية الدولة لإنشاء بنية تحتية تخدم عامة الشعب بشكل حديث.
هذا الخط من السياسات كان كارثيًّا على المملكة المتحدة التي حاولت عزل إيران عن العالم بسبب النفط خصيصًا، وأغضب الإدارة الأمريكية، حينها بدأ فرانك ويسنر في إنشاء عملية مشتركة هدفها الأساسي إسقاط محمد مصدق بأي وسيلة، وتولى بنفسه مهمة إقناع ألن دالاس (مدير المخابرات المركزية حينها) بتمويل العملية، وبالفعل تم تخصيص مليون دولار كاملة لها وهو مبلغ بالغ الضخامة لعملية واحدة بمقاييس الخمسينيات، ثم حدد فرانك مع فريق عمل مشترك بين الـ CIA والـ MI6 خطوات إسقاط مصدق، وأسند قيادتها بعد ذلك لحفيد ثيودور روزفلت الرئيس الأمريكي الأسبق (كيرميت روزفلت)، وصدق الرئيس أيزنهاور على بدئها، وأطلق عليها اسم العملية (أجاكس Ajax).
أنفقت الأموال بسخاء على شراء كل من وما يمكن شراؤه بداخل إيران، تأليب الداخل على مصدق باستعمال الأحوال الاقتصادية الرديئة التي تسبب فيها حصار بريطانيا الدولي على طهران، وتكوين جبهة معارضة بارزة، وفض حلفائه من حوله، والضغط على الشاه بإصدار قرار بعزله من منصبه كرئيس للوزراء، واستعان كيرميت بشعبان جعفري ليؤجج الشارع ضد مصدق ويقود الاشتباكات ضد مؤيديه (يمكن اعتبار شعبان بمسميات العصر الحالية كبير بلطجية إيران)، مع تنفيذ عمليات اغتيال لقيادات الجبهة الوطنية (جبهة مصدق)، بعد عامين من التخطيط والتنفيذ نجحت المخابرات الأمريكية بالفعل في إسقاط مصدق، حيث أصدر الشاه قرارًا بعزله وتعيين الجنرال فضل الله زاهدي محله، وقصف زاهدي بالفعل منزل مصدق الذي نجح في الفرار بأعجوبة، ثم سلم نفسه ليحاكم محاكمة صورية انتهت بحكم إعدام خفف للسجن ثلاث سنوات ثم إقامة جبرية في إحدى قرى إيران مدى الحياة، وهنأ أيزنهاور الـ CIA على نجاح العملية وطلب مقابلة كيرميت ليقدم له تقريرًا تفصيليًّا عنها.
المثير للسخرية أن العملية أياكس كانت نتائجها من أهم أسباب تكوين تيار ديني أقوى وأكثر رسوخًا تخلخل في البنية الاجتماعية الإيرانية أكثر وأكثر ومن ثم قيام الثورة الإيرانية (الإسلامية) كما أطلق عليها في أواخر السبعينيات، والثورة الإيرانية نفسها هي التي أدت بإيران إلى وضعها الحالي، صداع شديد الوطأة في رأس كل إدارة أمريكية، وميزانيات تجسس لا حصر لها، وتوسع وتغلغل في شبه الجزيرة العربية وما حولها، وتنامي الدور الإيراني عمومًا والعزلة التي تفكك بالتدريج.
لم تتوقف الـ CIA عن لعبة الانقلابات وتم إرساؤها كنظام فعال للتدخل والإطاحة بالحكومات التي لا توالي سياسة الولايات المتحدة، أو استعمال خطوات تكوين جبهات معارضة تتلقى تمويلها وتعليماتها من المخابرات المركزية بشكل غير مباشر وعبر دوائر عديدة ومعقدة ثم يتم استخدام هذه الجبهات للضغط على الأنظمة بدل الإطاحة بها، بعد مصدق مباشرة أممت الحكومة في غواتيمالا الأراضي الزراعية المملوكة لشركة الفواكه المتحدة الأمريكية، النتيجة أن الـ CIA وضعت خطة بإشراف مباشر من ويسنر كالعادة لإزالة حكم الرئيس (جاكوب أربينز) بداعي تحول الدولة لبؤرة شيوعية، تلاعبت الـ CIA بالجميع إعلاميًّا وماليًّا حتى أسقطت الرئيس الغواتيمالي بالفعل بعد توسلات دبلوماسية غواتيمالية لا حصر لها في الأمم المتحدة لإيقاف نشاط الولايات المتحدة المعادي وبالطبع لم يسمع أحد!
في أول العقد الستيني وصلت الـ CIA لمرحلة أعلى وأخطر تمثلت في التدخل المباشر لإزالة حكم الأنظمة غير الموالية للمصالح الأمريكية بضوء أخضر من البيت الأبيض، هذه المرحلة وصلت فيها الوكالة لإنشاء جيوش خاصة لخوض حروب بالوكالة، مثلًا عندما أتى كاسترو على رأس هرم السلطة الكوبي قام بحركة تأميم هائلة تسببت في خسائر عميقة للشركات الأمريكية العاملة في كوبا، كان احتلال اقتصادي خسرته الولايات المتحدة، حينها أصدر أيزنهاور أمرًا للوكالة المركزية ببدء خطة للإطاحة بكاسترو!
كانت الخطة بالغة العنف، أطلقت الـ CIA عليها عملية (النمس)، واستخدمت فيها 400 ضابط مخابرات لتدريب قوة شبه عسكرية كونتها المخابرات على حدود كوبا لخوض حرب عصابات ضد قوات كاسترو عندما يحين الوقت، رصدت للعملية ميزانية قدرها 13 مليون دولار استخدم جزء منها في رشوة الداخل الكوبي وفض حلفاء كاسترو عنه.
تدنت المخابرات المركزية أكثر، وذهب مدير الـ CIA بنفسه (ألن دالاس) ليعقد جلسات محادثة مع اثنين من أبرز زعماء المافيا (جوني روزيلي – سام جيانكانا) وقدمت المخابرات لهما مائة وخمسين ألف دولار مقابل القيام باغتيال كاسترو في تعاون نادر الحدوث بين عالم المخابرات وعالم الجريمة المنظمة، استغلالًا لأن كاسترو أغلق بيوت الدعارة الكوبية والكازينوهات وأضر بنشاط المافيا بشدة هناك، وأملًا في أن الصورة الإعلامية ستكون بعيدة كل البعد عن المخابرات الأمريكية إن نجحت الخطة!
لم يكن كاسترو بهذه السهولة، وعندما بدأت خطة الغزو ووصل الجيش الصغير المكون من 1500 رجل والمدرب على أيدي ضباط الوكالة والذي سبقه قصف أمريكي لتمهيد الأرض قامت قوات كاسترو بقتل المعظم وأسر البقية الباقية، وانسحب زعيما المافيا من خطة اغتيال الرئيس الكوبي، كان الفشل ذريعًا ولذلك كان كبش الفداء على مستوى الفضيحة وأقال الرئيس الأمريكي كينيدي مدير المخابرات دالاس مباشرة واشتهر عنه بأنه قال (سأمزق الـ CIA لألف قطعة ثم سأبعثرها في الهواء)، وهي العبارة غير المؤكدة والتي نقلت عنه قبل اغتياله بأيام قليلة ويستخدمها مؤيدو النظريات التآمرية لمحاولة ربط الـ CIA بتسهيل اغتيال كينيدي، وفي كل الأحوال فإن المخابرات الأمريكية لم تتعلم من الدرس وأخذت نفس الفشل تقريبًا في فيتنام مع خسائر ضخمة للآلة العسكرية الأمريكية.
عادت الـ CIA بعد ذلك لنجاحاتها في تدمير أنظمة الحكم المنتخبة شعبيًّا وغير المتوافقة مع سياسات الولايات المتحدة، هذه المرة كان الموعد مع تشيلي وسيلفادور الليندي، كانت كل المؤشرات تشير إلى فوزه في الانتخابات العامة في 1970 ووصوله لمقعد الرئاسة، حاولت الوكالة إفشاله وإفشال حزبه (العمال الاشتراكي) عن طريق دعم الحزب اليميني المنافس، وعندما فشلت الإستراتيجية ووصل الليندي للرئاسة كلف الرئيس نيكسون مدير المخابرات (ريتشارد هيلمس) بإسقاط الليندي، كلف هيلمس تيد شاكلي “مسئول الوكالة في لاوس” بالعملية، بالفعل ساعد تيد القوات الشيلية المسلحة على وضع خطة أدت بعد ثلاث سنوات إلى انقلاب عسكري بقيادة جنرال القوات المسلحة (بيونشيه) آخذًا السلطة من سيلفادور ومؤديًا إلى مقتله في قصره، ثم تولى بيونشيه رئاسة تشيلي محولًا الدولة لمقبرة جماعية كبيرة.
تصاعدت أنشطة الـ CIA ولم تمتد أياديها السوداء فقط للانقلابات من أمريكا اللاتينية لأفريقيا لأوكرانيا في أوروبا، وإنما تورط عدد من ضباطها في شغل حيز مهم من شبكة تجارة المخدرات العالمية (خاصة الهيروين)، كمثال بسيط فإن السيد تيد – هو نفسه الذي أشرف على إسقاط الليندي- كان ضلعًا هامًا في شبكة المخدرات في لاوس وخط الهيروين التجاري في جنوب وشرق آسيا فضلًا عن ضلوعه في شبهات فساد مالي، بجانب ذلك فإن الـ CIA حصلت على ضوء أخضر لإنشاء ميزانية أخرى بعيدًا عن رقابة الكونجرس، ولتفعل ذلك فقد اعتمدت على نشاطها في التجارات غير الشرعية (المخدرات/ السلاح/ شركات وهمية عبر الحدود) لإنشاء ما يعرفه مجتمع الاستخبارات الأمريكي بالميزانية السوداء (Black Budget)، وهي ميزانيات المجتمع الاستخباراتي التي لا يعرفها أحد وليس لأي مؤسسة في الولايات المتحدة سلطان عليها والتي كشفت تسريبات إدوارد سنودن أنها وصلت إلى ما يفوق الخمسين مليار دولار سنويًّا في 2012!
فوق القانون!
مدير جهاز الاستخبارات الوطنية (DNI) هو أرفع منصب أمني في الولايات المتحدة والعالم، استحدث المنصب في 2004 في خضم مصطلح (الحرب على الإرهاب) الفضفاض، يتم تعيين عسكريين فقط (جنرالات ذوو أربع نجوم) في المنصب، مدير الاستخبارات هو شخص يرأسه شخص واحد فقط هو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ويمتلك المدير الحق في الإشراف وتوجيه وتغيير نظم العمل والرقابة على 17 وكالة استخباراتية – على رأسها الـ CIA- هم مكونات المجتمع المخابراتي الأمريكي شديد التفرد.
كل ذلك مطبق عمليًّا ومعمول به بموجب قوانين شديدة الثبات على 16 وكالة، لكن عندما يأتي الأمر للـ CIA تختلف الرؤية تمامًا!
في مايو 2009 كان الأدميرال (دينيس بلير) يشغل المنصب في نهاية السنة الرئاسية الأولى لباراك أوباما، كان بلير عازمًا على تقليص نفوذ الـ CIA المتنامي داخل دوائر الحكم، لكنه وعلى أرض الواقع كان عاجزًا حتى عن تعيين الجاسوس الرئيسي في أي دولة أخرى، الرتبة التي تقليديًّا يقوم بإعطائها مدير مكتب المخابرات المركزية في أي عاصمة، في هذا الشهر أصدر بلير مذكرة بتوقيعه وبخاتم مكتب مدير الاستخبارات الوطنية تلزم جميع مكاتب الـ CIA بالتعديل الجديد وهو أن مكتب الـ (DNI) فقط له الحق في تعيين الجاسوس الرئيسي وسحب هذا الحق من الـ CIA، كان الأمر بحكم القانون والتراتبية ملزمًا وينفذ من وقت صدوره وتعميمه، لكن مدير المخابرات حينها – ووزير الدفاع بعدها- (ليون بانيتا) لم يعجبه ما حدث، ولذلك وبشكل سريع أرسل برقية معممة لكل مكاتب الـ CIA يخبرهم فيها بأن يتجاهلوا مذكرة الاستخبارات الوطنية تمامًا!
استمرت الحرب بين بلير وبانيتا، في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر حصلت الـ CIA على صلاحيات هائلة الضخامة لفعل كل ما يحلو لها تقريبًا بميزانيات مفتوحة وبأقل قدر ممكن من الرقابة (ظلام تام) لمنع حدوث هجوم آخر كذلك، وبعد تورطها بشكل مباشر في حرب العراق وتقديمها تقارير خاطئة بافتراض حسن النية عن وجود أسلحة دمار شامل في قلب بغداد، أنشأت الوكالة عددًا من البرامج السرية استهدفت بها السيطرة على مناطق الصراع في العالم من بغداد وكابول إلى شنغهاي، ورثت إدارة أوباما الإشراف على هذه البرامج من إدارة بوش، كان عزم بلير واضحًا – استغلالًا لوجود الإدارة الجديدة في البيت الأبيض- لمراجعة كل هذه البرامج ووضعها تحت رقابة واضحة ومحددة، وقف بانيتا مرة أخرى في وجهه قائلًا إن كشف البرامج والرقابة عليها من شأنه أن يقوض جهود وكالة المخابرات فيما تفعله.
بعدها صدقت الإدارة الأمريكية مباشرة على وجهة نظر بانيتا في عدم الكشف عن البرامج كما كتب يوكي دريزين، واستمرارها، بل وإعطاء المزيد من الموارد للـCIA، وقال أوباما حينها بصراحة لمساعديه إن ما تطلبه المخابرات المركزية تحصل عليه، بعدها بسبعة أشهر تمت التضحية ببلير واستبداله!
سُلْطَة تشكل الكوكب!
يواصل يوكي قوله إن ما آلت إليه المخابرات المركزية الآن هو تحولها من جهاز مهمته جمع المعلومات إلى منظمة كبيرة تقوم بعمليات اصطياد واسعة لأعدائها بلا أي رقابة في جميع أنحاء العالم، منظمة لديها أسطول كامل من الطائرات بدون طيار تطلقها في كل مكان وتستهدف بها العديدين ((ويقدر عدد المدنيين الأبرياء الذين قتلتهم الوكالة بالطائرات بدون طيار بألف تقريبًا منهم 207 أطفال)، ولديها العديد من المعتقلات غير المرئية (Off the grid) والتي لا يعلم أحد عنها شيئًا.
في 2009، وقف ليون بانيتا يشرح أمام الكونجرس كيفية توغل وكالة مخابراته في العالم المظلم للاغتيالات، مفيدًا بأنه كان هناك بالفعل في عهد المديرين السابقين برنامجًا سريًّا للاغتيال بموجبه تتعاون الـ CIA مع قتلة محترفين لهم صلات مع شركات مرتزقة سيئة السمعة كبلاك ووتر، تستخدم المخابرات هؤلاء القتلة لتصفية أي شخص يتم اعتباره غير مرغوب فيه في أنحاء العالم بدون ظهور الوكالة في الصورة، بالمخالفة للأمر الرئاسي رقم 11905 الذي وقعه الرئيس فورد وحظر فيه المخابرات المركزية من التورط في أي اغتيال سياسي في أي مكان من الأرض، وهو ما تم معرفته بشكل غير رسمي عندما كان إيرك برنس رئيس مجلس إدارة بلاك ووتر عميلًا للـ CIA، وحينها اتضح أن الشركة تقوم بالتعاقد من الباطن مع الوكالة لتنفيذ عمليات الاغتيال لها مقابل دفعات مالية بعشرات الملايين مع إمكانية استخدام بعض معدات الوكالة المتقدمة وأسلحتها الخاصة!
بالطبع أنكر بانيتا أن البرنامج مازال فعالًا، لكن أعضاء لجنة الاستخبارات في الكونجرس في كل الأحوال لم يكونوا في مزاج قابل للتصديق بعد كل ما حدث!
تستخدم المخابرات المركزية الأمريكية كل الوسائل الممكنة لإحكام سيطرتها على الوضع العالمي بشكل يخدم مصالح الولايات المتحدة، من القوة الناعمة المتضمنة لتمويلات ضخمة لبعض منظمات المجتمع المدني وأحزاب مختارة ونشطاء بعينهم في الدول المعنية باهتمام الوكالة، إلى القوة الخشنة المتمثلة في أسطول الطائرات بدون طيار وفرق الاغتيال كبيرة العدد، ولا تغيب القوة الاقتصادية عنها وتورطها في أنشطة تجارية غير مشروعة سواء كانت شبكة تجارة المخدرات العالمية ومركزها أمريكا الجنوبية أو تجارة السلاح أو تجارة الماس مثلًا وتغلغلها بشكل فعال عن طريقه وطرق أخرى في أفريقيا.
ليست الـ CIA تنينًا أسطوريًّا لا يفشل، فعلامات فشلهم موجودة وهي بقع سوداء يتم تنشيطها كل فترة إعلاميًّا كنوع من أنواع صراع مجتمع الاستخبارات الأمريكي الداخلي، فشلها في فيتنام، فشلها في كوبا، وفشلها البارز في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتقاريرها الخاطئة قبل حرب العراق عن الأسلحة النووية، وفشلها في التنبؤ بظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وفشلها أيضًا في احتواء البرنامج النووي الإيراني، لكنهم في النهاية يمتلكون نفوذًا داخليًّا غير محدود، يخضعون نظريًّا للكونجرس وعمليًّا وبشكل فعال للرئيس فقط، أما خارجيًّا فالوكالة متوغلة في أغلب أنحاء العالم مع ضخامة مصادرها وتمويلها وبعد نسبة كبيرة منهم عن الرقابة، وعن طريق كل وسائلهم الناعمة والخشنة والاقتصادية فهي – بتعبير يوكي- سلطة تتمتع بحكم شبه ذاتي وتساهم في تشكيل العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق